وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (57)
لقد ماجت العديد من كتب السير بقصص مختلقة لا يصح انتسابها لرسول الله أو الافتراء عليه بفعلها، من ضمن هذه القصص قصة الغرانيق، ومضمونها أن الشيطان قد ألقى على لسان رسول الله كلمات قالها وهو يقرأ القرآن على جمع من المسلمين والمشركين عقب الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة، فلما سمعوها تعجبوا من ثناء النبي على آلهتهم بخير فسجدوا معه .
أما الكلمات التي زعموا أن النبي امتدح بها أصنامهم فهي ( تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهم لتُرجى
وفي رواية [إن شفاعتها لتُرجى وإنا لمع الغرانيق العلى ]
وفي أخرى [ والغرانقة العلى تلك للشفاعة ترتجى ]
أما عن مكانها فوسط آيات سورة النجم،
قال تعالى (أَفَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَالْعُزّىَ وَمَنَاةَ الثّالِثَةَ الاُخْرَىَ [تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهم لترجى] أَلَكُمُ الذّكَرُ وَلَهُ الاُنْثَىَ
فأي افتراء على رسول الله بعد هذا،
أحاديث مرسلة تخالف القرآن الكريم وصحيح السُنة المُطهرة فكيف تجد من ينقلها أو يُحدِّث بها !
ألا يُخالف هذا قول الله تعالى (وَلَوْ تَقَوّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُمْ مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) (3)
ويخالف قول الله تعالى (إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا الذّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (4)
ويخالف قول الله تعالى (لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتّبِعْ قُرْآنَهُ) (5)
ويخالف قول الله تعالى (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (6)
ويخالف قول الله تعالى (تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رّبّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقّ مِن رّبّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مّا أَتَاهُم مّن نّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ لَعَلّهُمْ يَهْتَدُونَ) (7)
ويخالف قول اله تعالى {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى}(8)
فهذه الآيات القرآنية حجة دامغة على بُطلان هذه القصة،
كما أن هذه القصة لم تثبت بسند صحيح عن رسول الله ورغم هذا وقف عندها بعض أهل العلم يحاولون أن يلتفوا بها ليثبتوا غير ما تعنيه أو أن يؤلوا معناها وأنها لا تخالف عصمة الأنبياء وأنها لا تتعارض مع حقائق رسالة الإسلام التي تنفي أي صورة من صور الركون من رسول الله للمشركين
والتي تنفي أيضا إمكانية خطأ رسول الله وهو يبلغ القرآن عن رب العالمين لا سهوا ولا عمدا ، فهذا لا يصح بل هو بهتان عظيم .
ونحن إذ نقول أن هذه القصة لا يصح انتسابها لرسول الله لوجود الحجة التي تبرهن على بطلانها سندا ومتنا نؤكد أن غير واحد من أهل العلم قد قبل حدوثها وحاول الالتفاف بمضمونها وتأويله لكي لا تتنافى مع عصمة الأنبياء في أمانة التبليغ عن الله عز وجل، إلا أن الحق لا يُعرف بالناس وإنما يُعرف الناس بالحق، والعبرة بما صح من الخبر فالخطأ لم يسلم منه أحد .
ولعظيم شأن هذا الأمر وتعلقه بمسألة عقائدية، ولشيوع خبر هذه القصة في العديد من كُتب السير بل وكُتب التفاسير فإننا سنتناولها بعرض أكثر تفصيلا لتُقام به الحُجة ويظهر به الحق ويُبرأ رسول الله من هذا البهتان العظيم .
تحدث عن بُطلان هذه القصة غير واحد من أهل العلم وتناولوها بكل الوجوه وتتبعوا كل أسانيدها ثم أقاموا الحجة بالدليل والبرهان على بطلانها سندا ومتنا، من هؤلاء القاضي عياض في كتابه
" الشفا " والشيخ الألباني في رسالة بعنوان " هدم قصة الغرانيق " والشيخ الشنقيطي في كتابه " أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن "
وغير واحد من أهل التفسير، كان مما جاء عنهم :
من حيث السند:
قال القاضي عياض: يكفيك أن هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند متصل سليم وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم .
وقال القاضي بكر بن العلاء المالكي : لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير وتعلق بذلك الملحدون مع ضعف نقله واضطراب رواياته وانقطاع إسناده واختلاف كلماته،
فقائل يقول: إنه في الصلاة وآخر يقول : قالها في نادي قومه حين أنزلت عليه السورة وآخر يقول : قالها وقد أصابته سنة
وآخر يقول : بل حدث نفسه فسها وآخر يقول : إن الشيطان قالها على لسانه وإن النبي لما عرضها على جبريل قال : ما هكذا أقرأتك ؟
وآخر يقول : بل أعلمهم الشيطان أن النبي قرأها فلما بلغ النبي ذلك قال : والله ما هكذا أنزلت .
إلى غير ذلك من اختلاف الرواة ومن حكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين والتابعين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية والمرفوع فيه حديث شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب –
الشك في الحديث - أن النبي كان بمكة وذكر القصة
وقال أبو بكر البزار " هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي بإسناد متصل يجوز ذكره إلا هذا ولم يسنده عن شبعة إلا أمية بن خالد وغيره يرسله عن سعيد بن جبير، وإنما يُعرف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس "
فقد بين البزار رحمه الله أنه لا يُعرف من طريق يجوز ذكره سوى حديث شعبة وفيه من الضعف ما نبه عليه مع وقوع الشك فيه الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه .
وأما حديث الكلبي فمما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه كما أشار إليه البزار ، والذي منه في " الصحيح " " أن النبي قرأ ( النجم ) وهو بمكة فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس "
وقال الحافظ ابن كثير عند تفسيره آية سورة الحج " قد ذكر كثير من المفسرين ها هنا قصة الغرانيق وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ظنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا ولكنها من طرق كلها مرسلة ولم أرها مسندة من وجه صحيح .
وقال الشيخ الألباني : إن كل طرقها مرسلة لا يدري من الذي حدث بها ممن يمكن أن يدرك عصر النبوة ، والذي في الصحيح أن الرسول قد قرأ سورة النجم فسجد المسلمون والمشركون مع سجوده
وقال الشوكاني: ولم يصح شيء من هذا ولا يثبت بوجه من الوجوه ومع عدم صحته بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله سبحانه " ثم ذكر بعض الآيات الدالة على البطلان ثم قال " وقال إمام الأئمة ابن خزيمة إن هذه القصة من وضع الزنادقة "
وقال الآلّوسي في إبطال القصة "إن القول بأن هذا الخبر مما ألقاه الشيطان على بعض ألسنة الرواة ثم وفق الله تعالى جمعا من خاصته لإبطاله أهون من القول بأن حديث الغرانيق مما ألقاه الشيطان على لسان النبي ثم نسخه .
هذا توهينه من جهة النقل أما من جهة المعني :
قال القاضي عياض : لقد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة إما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله وهو كفر أو أن يتسور عليه الشيطان ويشبه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه ويعتقد النبي أن من القرآن ما ليس منه حتى ينبهه عليه جبريل عليه السلام وذلك كله ممتنع في حقه أو يقول ذلك النبي من قبل نفسه عمدا وذلك كفر أو سهو وهو معصوم من ذلك كله
وقد قررنا بالبراهين والإجماع عصمته من جريان الكفر على قلبه أو لسانه لا عمدا ولا سهوا وأن يشتبه عليه ما يلقيه الملك بما يلقي الشيطان أو يكون للشيطان عليه سبيل أو يتقول على الله لا عمدا ولا سهوا ما لم ينزل عليه وقد قال تعالى (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ)
ووجه ثان : وهو استحالة هذه القصة نظرا وعُرفا، وذلك أن هذا الكلام لو كان كما روي لكان بعيد الالتئام متناقض الأقسام ممتزج المدح والذم متخاذل التأليف والنظم ، ولما كان النبي ولا من بحضرته من المسلمين وصناديد المشركين ممن يخفى عليه ذلك وهذا لا يخفى على أدنى متأمل فكيف بمن رجح حلمه واتسع في باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه ؟
ووجه ثالث : أنه قد علم من عادة المنافقين ومعاندة المشركين وضعفة القلوب والجهلة من المسلمين نفورهم لأول وهلة وتخليط العدو على النبي لأقل فتنة وتعييرهم المسلمين والشماتة بهم الفنية بعد الفنية وارتداد من في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة ولم يحك أحد في هذه القصة شيئا سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل ولو كان ذلك لوجدت قريش بها على المسلمين الصولة ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة كما فعلوا مكابرة في قصة الإسراء حتى كانت في ذلك لبعض الضعفاء ردة . ولا شك في إدخال بعض شياطين الإنس والجن هذا الحديث على مغفلي المحدثين يلبس به على ضعفاء المسلمين .
ووجه رابع : ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (9)
وهاتان الآيتان تردان الخبر الذي رووه، لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا ليفتنونه حتى يفتري وأنه لولا أن ثبته لكاد يركن إليهم، فمضمون هذا ومفهومه أن الله تعالى قد عصمه من أن يفتري وثبته حتى لم يركن إليهم قليلا فكيف كثيرا ؟ وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون الافتراء بمدح آلهتهم وأنه قال " افتريت على الله وقلت ما لم يقل " وهذا ضد مفهوم الآية وهي تُضعف الحديث لو صح فكيف ولا صحة له ؟
وهذا مثل قوله تعالى في الآية الأخرى [ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (10)
وقال الشنقيطي في أضواء البيان :
وهذا القول الذي زعمه كثير من المفسرين وهو أن الشيطان ألقى على لسان النَّبي هذا الشرك الأكبر والكفر البواح الذي هو قولهم تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى،
يعنون: اللات والعُزى، ومناة الثالثة الأخرى، الذي لا شك في بطلانه في نفس سياق آيات النجم التي تخللها إلقاء الشيطان المزعوم قرينة قرآنية واضحة على بطلان هذا القول.
لأن النَّبي قرأ بعد موضع الإلقاء المزعوم بقليل قوله تعالى في اللات والعُزى، ومناة الثالثة الأخرى
{إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} (11
)
وليس من المعقول أن النَّبي يسب آلهتهم هذا السب العظيم في سورة النجم متأخراً عن ذكره لها بخير المزعوم ، إلا وغضبوا، ولم يسجدوا لأن العبرة بالكلام الأخير، مع أنه قد دلت آيات قرآنية على بطلان هذا القول
.....
والحاصل : أن القرآن دل على بطلانها، ولم تثبت من جهة النقل، مع استحالة الإلقاء على لسانه لما ذكر شرعاً، ومن أثبتها نسب التلفظ بذلك الكفر للشيطان . فتبين أن نطق النَّبي بذلك الكفر، ولو سهواً مستحيل شرعاً، وقد دل القرآن على بطلانه، وهو باطل قطعاً على كل حال .
أما الحافظ ابن حجر مع ذهابه إلى تقوية القصة يرى أن فيها ما يستنكر وأنه يجب تأويله فيقول " وإذا تقرر ذلك تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر وهو قوله " ألقى الشيطان على لسانه " تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى " فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره لأنه يستحيل عليه أن يزيد في القرآن عمدا منه وكذا سهوا إذا كان مغايرا لما جاء به من التوحيد لمكان عصمته "
وقال الألباني إنه ليس هناك رواية معتمدة صحيحة بالمعنى العلمي الصحيح وأن الرواية التي صححها الحافظ قد أنكر بعضها هو نفسه فأين الاعتماد ؟؟ انتهى كلامهم رحمهم الله جميعا .
إذن هذه الرواية لا تصح لا سندا ولامتنا ولا يجوز القول بها شرعا، وقد بين العلماء أن ثبوتها يُعني ركونا من رسول الله للمشركين ومعتقداتهم، فكيف يكون هذا والله تعالى يقول (وَلَوْلاَ أَن ثَبّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً)(12)
فإن الله قد أبى على رسوله أن يركن إلى المشركين ولو بالقليل فما بالك بتعظيم أصنامهم وإثبات شفاعتها !
أما عن تفسير قول الله تعالى (وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُولٍ وَلاَ نَبِيّ إِلاّ إِذَا تَمَنّىَ أَلْقَى الشّيْطَانُ فِيَ أُمْنِيّتِهِ فَيَنسَخُ اللّهُ مَا يُلْقِي الشّيْطَانُ ثُمّ يُحْكِمُ اللّهُ آيَاتِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (13) والتي جعل العديد من المفسرين قصة الغرانيق شاهدا عليها، فقد تحدث في تأويلها غير واحد من أهل العلم، فقال ابن القيم في " إغاثة اللهفان " والسلف كلهم على أن المعنى إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته " وبينه القرطبي فقال في " تفسيره " وقد قال سليمان بن حرب إن ( في ) بمعنى عند " أي ألقى الشيطان في قلوب الكفار عند تلاوة النبي " كقوله عز وجل [وَلَبِثْتَ فِينَا] (14) أي عندنا
وقال الشنقيطي " وإن ذكرنا أن قوله {فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ} يستأنس به لقول من قال : إن مفعول الإلقاء المحذوف تقديره ألقى الشيطان في قراءته ما ليس منها، لأن النسخ هنا هو النسخ اللغوي، ومعناه الإبطال والإزالة من قولهم : نسخت الشمس الظل، ونسخت الريح الأثر، وهذا كأنه يدل على أن الله ينسخ شيئاً ألقاه الشيطان ، ليس مما يقرؤه الرسول أو النَّبي، فالذي يظهر لنا أنه الصواب ،وأن القرآن يدل عليه دلالة واضحة، وإن لم ينتبه له من تكلم على الآية من المفسرين هو أن ما يلقيه الشيطان في قراءة النَّبي : الشكوك والوساوس المانعة من تصديقها وقبولها، كإلقائه عليهم أنهم سحر أو شعر، أو أساطير الأولين، وأنها مفتراة على الله ليست منزلة من عنده.
والدليل على هذا المعنى : أن الله بين أن الحكمة في الإلقاء المذكور امتحان الخلق، لأنه قال {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} ثم قال {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} (15) فقوله {وَلِيَعْلَمَ الذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ}. يدل على أن الشيطان يلقي عليهم أن الذي يقرأه النَّبي ليس بحق فيصدقه الأشقياء ، ويكون ذلك فتنة لهم، ويكذبه المؤمنون الذين أوتوا العلم ، ويعلمون أنه الحق لا الكذب كما يزعم لهم الشيطان في إلقائه: فهذا الامتحان لا يناسب شيئاً زاده الشيطان من نفسه في القراءة، والعلم عند الله تعالى.
وعلى هذا القول، فمعنى نسخ ما يلقى الشيطان: إزالته وإبطاله، وعدم تأثيره في المؤمنين الذين أوتوا العلم ، ومعنى يحكم آياته : يتقنها بالإحكام، فيظهر أنها وحي منزل منه بحق، ولا يؤثر في ذلك محاولة الشيطان صد الناس عنها بإلقائه المذكور، وما ذكره هنا من أنه يسلط الشيطان فيلقى في قراءة الرسول والنَّبي، فتنة للناس ليظهر مؤمنهم من كافرهم. (16)
والله أعلم
أسامة عبد العظيم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1){النَّجم 33/62 }
(2){الأنعام:33}
(3)[الحاقة 44: 47]
(4)[الحجر 9]
(5)[القيامة 16: 18]
(6)[ فصلت 41ـ 42]
(7)[السجدة2 : 3]
(8) [النجم:3-4]
(9)(الإسراء:74:73)
(10)(النساء:113)
(11)[النجم:23]
(12)[الإسراء 74]
(13)[الحج – 52]
(14)( الشعراء : 18 )
(15)[الحج:54]
(16) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن