[تفسير القمي]
﴿ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ﴾ [غافر:11]
قال الصادق عليه السلام: [ذلك في «الرَّجْعَة»] ( بحار الأنوار، ج 53 /ص 56، وهو الحديث رقم (36) في الطبعة الجديدة.).
حُكْمُ الحديث: (ضعيف: مرسل).
توضيحٌ: سياق الآية المذكورة هو التالي: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ * قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ﴾ [غافر:10-11].
فمعنى
﴿ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ﴾ [غافر:11] ربنا خلقتنا في البدء أمواتاً ثم وهبتَ لنا الحياة فأحييتنا وبعد ذلك أمتَّنا في الدنيا ثم أحييتنا ثانيةً للبعث والنشور يوم القيامة ﴿ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ﴾ [غافر:11]، وهذا السؤال جوابه مقدّرٌ محذوفٌ يدلُّ عليه سياق الكلام وتقديره
«لا سبيل إلى خروجكم»، أي لا سبيل إلى عودتكم إلى الدنيا لأنكم كذّبتم من دعاكم إلى الإيمان بالله الواحد الأحد، ولو دعاكم إلى أن تشركوا بالله أصناماً ومعبودات أخرى لصدّقتموه وأجبتموه، فالحكم فيكم اليوم لِـلَّهِ العليِّ القدير.
هذا رغم أن بعض المفسّرين احتمل تفسيراً آخر لقوله تعالى: ﴿ فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ؟ ﴾
ولكن لما كانت أفضل طريقة لفهم القرآن هي العودة إلى القرآن ذاته لذا فإننا بالرجوع إلى قوله تعالى:
﴿ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ [الأنعام:28-29].
الذي يتضمن مقالة الكفار في الآخرة يظهر لنا أن جملة: ﴿ فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ؟ ﴾ متمِّمة -كما قلنا- لمقالة الكفار والمراد منها طلب الكفار أن يعودوا إلى الدنيا،
كما فسّرها بذلك -جازماً-
كلٌّ من الزمخشري في «الكشاف» والبيضاوي في تفسيره وفسّرها على سبيل الاحتمال الشيخ الطبرسي في «مجمع البيان»،
ومن هنا يمكننا أن نعتبر هذه الآية -التي يظنُّها القائلون بالرجعة من الأدلّة القويّة على قولهم- دليلاً على نفي «الرَّجْعَة».
نعم لقد أوّل القائلون بالرجعة آية: ﴿ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ﴾ [غافر:11]
فتلاعبوا بمعناها منذ البداية وأوّلوها تأويلاً خاطئاً ليجعلوها دليلاً على «الرَّجْعَة»
فقالوا أن الموتتين هما الموت الأول في الدنيا والموت الثاني بعد «الرَّجْعَة»،
والحياتين الحياة عند الرجعة والحياة الجديدة يوم القيامة،
ثم ذكروا عدة روايات، من جملتها الرواية المذكورة هنا، دليلاً على تفسيرهم المذكور،
ثم إن بعض العلماء المعاصرين لما اعتبروا أن فهم القرآن منحصر في الأخبار -دون رعاية لصحيحها وسقيمها- جمدوا على هذه الأخبار الضعيفة
فاعتبروا الآيةً المذكورة مثبتةً للرجعة، ولو أنهم عادوا إلى القرآن الكريم وانتبهوا قليلاً إلى سائر آياته ولاحظوا قوله تعالى: ﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة:28]،
التي تفسّر الآية المذكورة وتبينها بكل وضوح لما وقعوا في ذلك الاشتباه،
فالآية الأخيرة تقول
في مقام بيان السير التكاملي لبني البشر أن للإنسان
موتتين:
موتٌ قبل الخلقة وموتةٌ بعد الخلقة،
وحياتين: حياة في الدنيا وحياة في الآخرة،
وهذا بلا أي شبهة يُنزّل على معنى آية: ﴿ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ﴾ [غافر:11]
التي تدل على موتتين وحياتين للإنسان، أي المُستفاد من آية: ﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ﴾ [البقرة:28]
هو أن الله يقول موبّخاً الكفار: كيف تُنكِرون المبدأ والمعاد وتجعلون الموت والحياة من أفعال الطبيعة رغم تلك التطورات التي تشاهدونها بأنفسكم،
وفي آية: ﴿ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ﴾ [غافر:11]
يريد أن يقول إن ما ينكره المشركون في الدنيا (أي إنكارهم الحياة الأخروية وإنكارهم استناد الموت والحياة الدنيوية إلى الله) سيصدقون به يوم القيامة عندما يواجهون في الآخرة عذاب الله،
أي أن المشركين بقولهم: ﴿ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ ﴾
يريدون أن يقولوا: [يا رب خلقتنا في البداية كائنات ميتة ثم أحييتنا ثم أمتنا ثانية ثم ها أنت أحييتنا ثانية، فاعترفنا بذنوبنا].
فعُلِمَ مما سبق أن المقصود من قوله تعالى: ﴿ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ﴾
هو عين المقصود من آية: ﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ باللهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ ولا علاقة لتلك الآية بالرجعة.
وقد يُشكل أحدهم على ما ذكرناه بأن آية: ﴿ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ ﴾ تتضمن إماتتين وإحيائين في حين أن آية: ﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِالله ﴾ تدل على موت واحد وإحيائين فكيف تكون مفسرة للآية السابقة؟
فنقول: إن كلمة «إماتة» كما تستعمل في معنى «إنهاء الحياة» تُستعمل أيضاً -كما يذكر ذلك الزمخشري في تفسيره الكشاف (ص274) والآلوسي في تفسيره روح المعاني (ج24/ص46)
والبيضاوي في تفسيره (ص224)-
بمعنى إيجاد الشيء ميتاً وجعل الشيء معدوم للحياة،
وذلك مثل كلمة «تصغير» و«تكبير» اللتان تُستخدمان بمعنى تصغير الشيء بعد أن كان كبيراً أو تكبيره بعد أن كان صغيراً،
كما تُستعمل في جعل الشيء من الأصل صغيراً أو كبيراً كما في قول القائل: [سبحان مَن صغّر جسم البعوضة وكبّر جسم الفيل]
وبناء على ذلك فمعنى آية: ﴿ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ ﴾ هو موت وإماتة، مثلما هو معنى آية: ﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِالله ﴾، أما إذا أُريد من ﴿ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ ﴾
إماتتان أي إماتة في الدنيا وإماتة بعد الرجعة، فلا بد أن يكون للإنسان على هذا ثلاث إحياءات، وهذا المعنى يُخالف صريح القرآن.